سلطنة عمان شهدت بناء أول مقهى مطبوع في العالم خلال 8 أيام فقط
العلوي: من المقدر أن تصل القيمة السوقية للطباعة ثلاثية الأبعاد إلى 84 مليار دولار في عام 2029
أربعة مهندسين عمانيين من خلف شاشات تحكم وخلال أسابيع بإمكانهم أن يتموا بناء منزلك بأسعار لا تتخيلها. هكذا يقرأ التقنيون المستقبل القريب بعد رواج ونجاح آليات الطباعة ثلاثية الأبعاد في تشييد عدد من المباني خلال فترات زمنية قياسية متجنبين الأخطاء البشرية المضيعة للوقت والمال. هذه التقنية التي تصنع مجسمات عبر ضخ طبقات من مادة مرنة بواسطة آلة تتبع نمطا هندسيا محددا ستفتح المزيد من الفرص أمام العمانيين للدخول في قطاع تهيمن عليه القوى العاملة الوافدة غير الماهرة وتمنحهم فرصًا أخرى للريادة.
ولم يعد الأمر خيالا علميًا، ففي المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم مثلا يمكن أن ترى وحدة تجارية متكاملة على مساحة 101 متر مربع صُنعت بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، وقبل أقل من شهر واحد، دشنت شركة تنمية نفط عُمان مبنى بذات التقنية باستخـدام طابعة ومواد محليّة الصنع. أما أول مبنى من هذا النوع في سلطنة عمان فقد أنجزته الجامعة الألمانية للتكنولوجيا إعلانًا عن افتتاحها مركز تقنيات ومعايير البناء لتأهيل الكوادر الوطنية في هذا القطاع.
وقال عثمان بن مكتوم المنذري، أحد مؤسسي شركة “إنوتك”، وهي شركة تقنية عمانية مختصة بتقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد ورئيسها التنفيذي: ستحدث هذه التقنية تحولا كبيرًا في سرعة إنجاز المباني وجودتها إضافة إلى خفض تكلفتها، وأوضح: المباني التي تستغرق أشهرا وسنوات لبنائها بات من الممكن إنجازها خلال أيام وأسابيع بواسطة تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، كما أنها تختزل وتقلل بشكل كبير الأخطاء البشرية كون العمل يتم آليًا.
وقد يتنامى إلى الذهن بأن آلات كهذه قادرة على استبدال البشر وجعلهم دون وظائف في قطاع البناء والتشييد، إلا أن السيناريو في سلطنة عمان قد يكون مختلفًا، بحيث يمكن لهذه التقنية بما تتطلبه من مهارات عالية أن تمثل سوقًا جاذبًا للشباب. يقول المنذري: إنشاء مبنى بالطريقة التقليدية قد يتطلب ما يقارب 20 عاملا من الأيدي العاملة غير الماهرة، في المقابل، البناء باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد قد يتطلب 3 – 4 عمال من ذوي المهارة العالية من المهندسين والتقنيين، ومن هنا يمكن جذب الشباب العماني للعمل في قطاع البناء والتشييد الذي يوفر أكثر من مليون فرصة عمل يذهب أغلبها لغير العمانيين بسبب طبيعة العمل الشاقة، الأمر الذي يمكن أن تحسنه الآلة وهو ما لمسناه في مشاريعنا من خلال زيادة إقبال الشباب العماني للمشاركة في البناء بهذه التقنية.
ويمكن لهذه التقنية أن تحدث تغييرًا ثوريًا في أسعار البناء مستقبلا، يقول عثمان المنذري: الأمر أشبه بالثورة الصناعية التي لحقت بالسيارات، فقبل قرن من الزمن، وحين كانت تصنع يدويًا، لم يكن امتلاك سيارة أمرًا متاحًا لغير الأثرياء ، وبعد ثورة خطوط التصنيع وإمكانية إنتاج السيارات بمئات الآلاف انخفض سعرها بشكل كبير وارتفعت جودتها، وهو المؤمل حدوثه في قطاع البناء. فبعد وقت كافٍ من البحث والتطوير للطابعات ثلاثية الأبعاد ستنخفض كلفة البناء وسيتمكن الجميع من الحصول على مبانٍ بجودة عالية في وقت قياسي.
وبدلا من استيراد طابعات جاهزة، قررت شركة “إنوتك” العمانية صناعة طابعة ثلاثية الأبعاد تتناسب مع متطلبات ومعايير البناء المحلية، حيث يقول المنذري: منذ تأسيس إنوتك في 2013 أدركنا أهمية هذه التقنية والفرص المستقبلية لها، ونفخر بكوننا أول شركة عمانية في هذا المجال، إضافة إلى صنعنا لأول طابعة محلية في سلطنة عمان. وكان بإمكاننا استيراد هذه التقنية، ولككنا أردنا طابعات تتلاءم مع احتياجات السوق المحلية، كما ارتأينا أنه بإمكاننا صنع آلة بذات جودة وكفاءة المستوردة بل وبنصف تكلفة شرائها.
ويرى المنذري أن سلطنة عمان جاهزة لتبني هذه التقنيات لوجود الكفاءات العمانية والتي تحتاج فقط إلى التدريب والصقل. وأردف: نعمل في إنوتك على أخذ الخريجين العمانيين من الجامعات المحلية والدولية وتدريبهم وتأهيلهم للعمل على هذه الآلات وريادة هذا القطاع مستقبلا.
ريادة بكفاءات عمانية
ووسط جهود شبابية، تمكن فريق عماني بالجامعة الألمانية من بناء أول مبنى في سلطنة عمان بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، وحول هذا الإنجاز قالت خولة السالمية، ومحمد سليمان من فريقي التصميم والتنفيذ: بدأت التجربة حين اعتزمت الجامعة الألمانية بناء مركز تقنيات البناء، وقامت بشراء طابعة ثلاثية الأبعاد بالتعاون مع شركة “كوبود” العالمية. التجربة كانت صعبة جدا كونها تقنية جديدة غير منتشرة وهي التجربة الأولى للفريق ولكنها تكللت بالنجاح مع اكتمال أكبر بيت مطبوع بالخرسانة الإسمنتية في العالم. بعدها توالت المشاريع، وقامت الجامعة بالمساهمة في بناء أول مقهى مطبوع في العالم بالدقم خلال ثمانية أيام عمل فقط وهو رقم غير مسبوق في هذه التقنية.
ويرى الفريق أن تقنية البناء بواسطة الطباعة ستوفر الكثير من الوقت في عملية البناء مستقبلا، حتى فيما يتعلق بالتوصيلات، بالإضافة إلى تنفيذ تصاميم مبتكرة وغير مكررة، وتقليلها للأيدي العاملة لأكثر من النصف، واستغلالها للمواد المحلية في البناء مما يجعل عملية البناء أكثر نفعًا للبيئة.
“الأخطاء غير واردة إذا ما أدخلت البينات الصحيحة للآلة”، هكذا أجاب الفريق عند سؤاله عن نسبة الأخطاء التي يمكن ارتكابها خلال عملية البناء الآلي. وقال: عند تزويد التقنية بالخريطة بكافة تفاصيلها الصحيحة، سيتمكن صاحب المبنى من شراء النوافذ والأبواب حتى قبل البدء بالبناء لأن القياسات المرسومة ستطابق الواقع، وهو أمر لا يمكن ضمانه في عمليات البناء التقليدية. وقال الفريق بإن الطابعات ثلاثية الأبعاد قد بدأت بالفعل في تغيير ملامح عالم البناء كما نعرفه، وهي في تطور متسارع ومن المتوقع أن يتزايد الطلب عليها بشكل كبير خلال السنوات المقبلة، ونحن نسعى لتطوير هذه التقنية وتوسيع استخدامها في سلطنة عمان لتكون رائدة في هذا القطاع.
وقال الفريق أن تقنية البناء بالطابعة ثلاثية الأبعاد لا زال مكلفا ومعقدا بعض الشيء كحال أي تقنية جديدة، ولكن مع زيادة البحوث والتطوير ودخول شركات منافسة في التصنيع ستبدأ قيمتها بالانخفاض مما سيعزز انتشارها بصورة أوسع.
المستقبل القادم
ويعود تاريخ تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد إلى سبعينيات القرن الماضي، إلا أنها تشهد تطورًا ملموسًا في السنوات الأخيرة. وحول ذلك يقول الدكتور مبارك بن خميس العلوي، مساعد العميد للتدريب وخدمة المجتمع بكلية الهندسة بجامعة السلطان قابوس: من المتوقع أن تواصل تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد الازدهار بوتيرة أعلى في السنوات المقبلة، إذ قدرت القيمة السوقية لهذه الصناعة بـ 15 مليار دولار في عام 2021 ويتوقع أن تصل قيمتها إلى 18 مليار دولار عام 2022 و84 مليار دولار في عام 2029.
وتابع: لاقت تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد رواجا عالميا لمساهمتها الفاعلة في الإنتاج الصناعي ولتعدد تطبيقاتها في صناعات مختلفة كصناعة الطيران والدفاع وصناعة السيارات والطب وصناعة المواد الاستهلاكية والصناعية والبناء والتشييد والهندسة الطبية الحيوية وغيرها من المجالات، وهذه التقنية ليست منتجا فقط بل منظومة اقتصادية كبيرة لها مستقبل زاهر ومن الضرورة الملحة توطين هذه الصناعة وإشراك مؤسسات التعليم العالي والمراكز البحثية على المستوى المحلي والعالمي بجانب القطاع الخاص لتمكينها.
وقال العلوي: يمكن لهذه التقنية أن تدعم الاقتصاد عن طريق استثمار الموارد الطبيعية ومنتجات الصناعات التحويلية وزيادة قائمة المنتجات المصنعة من هذه الموارد. كذلك استخدام المواد في تقنية الطابعة ثلاثية الأبعاد يعتمد على مواصفات المنتج المحددة ويجب أن تستوفي الشروط القياسية التي تمكنها من دخول مختلف الأسواق المحلية والإقليمية والدولية، لذا فإن المواد المستخدمة حاليا والمواد الجديدة التي سيتم تطويرها للاستخدام في الطباعة تخضع لدراسات متواصلة بهدف تحسين خصائصها ومواصفاتها وذلك لضمان استدامة الجدوى لاستخدام هذه التقنية لأطول فترة ممكنة، ومن هنا يأتي أيضا دور مؤسسات التعليم العالي في الجانب البحثي عن طريق اغتنام الفرص في استحداث مراكز بحثية داعمة للقطاع الخاص في كل ما يتعلق بهذه التقنية المتقدمة.