الفاتيكان تنشأ أول مطبعة عربية في التاريخ !
إذا كانت مطبعة قزحيا، أول مطبعة عرفها لبنان والعرب، فالذي لا يعرفه كثيرون في العالم العربي أيضاً، أن “حاضرة الفاتيكان“، كانت أول من أسس مطبعة عربية في التأريخ، هي “مطبعة فانو” في إيطاليا، ولولاها لظل العرب يستنسخون كتبهم باليد.. متحف الفاتيكان يحتفظ من مطبوعات “مطبعة فانو”، كتاب صلاة باللغة العربية يعود تأريخه الى سنة 1514.
و”مطبعة فانو” العربية هي أم المطبعة التي أمر بتأسيسها البطريرك أثناسيوس الثالث الدبّاس, بطريرك طائفة “الروم الكاثوليك الملكيين” في حلب، وقد إستحضر لها آلاتها من Wallachia (رومانيا)، وقد سبك أمهات أحرفها الشماس عبدالله الزاخر.
فطبع على مطبعة البطريرك الدباس، أوّل كتاب بالحرف العربي وللمصادفة, ، هو أيضاً كتاب “المزامير” وذلك في وقد عادت بعدها , فطبعت سبعة كتب،أخرى قبل أن تتوقّف نهائياً عن العمل العام 1711.
ما لبث عبد الله الزاخر, أن إنتقل سنة 1733 الى دير مار يوحنا الصابغ (يوحنا المعمدان) بالقرب من بلدة “الخنشارة”, وفي هذا الدير, شرع في إعادة, رسم أحرف, وتعديلها, قبل سبكها, وأسس مطبعة في الدير. فطبع الزاخر سنة 1734كتاب “ميزان الزمان”, فكان أول كتاب طبع بالحرف العربي, وامتد عمل هذه المطبعة لحوالي القرن ونصف القرن أي حتى عام ١٨٩٩.
في بيروت, وفي دير للروم الأرثوذكس, أسس يونس الجبيلي, المعروف بأبي عسكر, مطبعة, استخدم فيها الأحرف التي كان أعاد رسمها وسبكها عبدالله الزاخر, وطبع كته بها, وأول ما أصدرت مطبعة الجبيلي سنة 1751 كان “كتاب المزامير” أيضاً.(6) وبعد توقف عن العمل, استأنفت المطبعة نشاطها سنة 1845 لتقفل ابوابها سنة 1898 .
ولم يبقَ فن الطباعة, حكراً على لبنان واللبنانيين , فبعد مطبعة الشوير بأربع وستين سنة, جاءت حملة نابوليون بونابرت العسكرية والثقافية على مصر سنة 1798 لتدخل معها فن الطباعة الى بلاد النيل، بالأحرف العربية والفرنسيّة واليونانيّة، وبعدها بالحروف السريانيّة والقبطيّة والعبريّة. وأوّل “طباعة” كانت لـ”بيان” بونابرت الشهير في يوليو سنة 1798 توجه فيه الى المصريين… فضلاً عن طباعة عدد كبير من الاصدارات والصحف اليومية.
عقب انتهاء حملة بونابرت, التي لم تتجاوز السنوات الثلاث، أدرك محمد علي, حاكم مصر الجديد. , الذي إنقلب في ما بعد على سلطة الآستانة. واستقل في حكم البلاد، أهميّة العلوم والطباعة، فأنشأ سنة 1820 مطبعة “بولاق” المعروفة بتاريخها وشهرتها, واستقدم لها اللبناني نقولا مسابكي, ليكون المشرف والمدبر لها, وكان مسابكي قد أمضى سنوات أربع في إيطاليا, يتعلم ويتدرب على الطباعة في مطبعة “فانو”, فأصبح من المجلين فيا فن الطباعة, وعليه في “بولاق” تمنت, وكبرت, المطبعة التي طبعت ما يربو على 243 كتاباً باللغات العربيّة, والتركيّة ,والفارسيّة.
ويبدو أن المسلمين, لم يرضوا باديء ذي بدء, عن الطباعة بالحرف المتحرك, بل كانوا, ويؤثرون الكتابة باليد (7), التي أصبحت فناً من الفنون الجميلة, ,إكتسبت قدسية, ذلك أن القرآن كان ينسخ نسخاً باليد, ولذلك كله, فقد كانت الطباعة الحديثة, وقفاً على مسيحيي لبنان, ثم مسيحيي سوريا, ويعود الفضل في نقل الطباعة العربية الى أقطار العالم الخارجي, الى المهاجرين المسيحيين اللبنانيين.
(8) إن الرهبان الذين اختاروا العيش على الروابي العالية, القريبة من السماء, ينقطعون فيها عن العالم, في عيشة نُسكٍ, وزهد, وتقشف, وصلاة, ودرس, وتأمل, ثم العناية بأراضي الأديرة, أبقوا مشعل الحضارة المسيحية, والعربية, والإسلامية, منيرة, ولم يستطع كرّ السنين, أن يخدش جدران أديرتهم, أما المطبعة, فقد استطاعة أن تقوم بنشر المعرفة, والثقافة, والحفاظ ونشر التراث العربي والإسلامي, الذي ظل زمناً طويلاً, وقفاً على رهبان الأديرة.
في سنة1843, نقلت الارسالية الأمريكية،مطبعتها المعروقة بإسم “المطبعة االأمريكية”, من مالطا, حيث أسست أولاً, قبل تأسيس الجامعة الأمريكية, أوكلوا أدارتها إلى فارس الشدياق.واول عمل شرعت به الارسالية, كان ترجمة العهد القديم (التوراة), والعهد الجديد (الإنجيل) الى لغة عربية فصيحة, سهلة, لتضعهما في متناول الناس. وقد استغرق العمل ثماني سنوات, وقد قام بالترجمة مبشر إسمه عالي سميث Eli Smith , خريج جامعة بيل”, وكورنيليوس فا ديك, المشهورو وكان يعاونهم في هذا المشروع ثلاثة أدباء لبنانيينهم: بطرس البستاني, إبراهيم اليازجي, يوس الاسير.
جاء نقل مطبعة مالطا العربيّة إلى بيروت وتأسيس المطبعة الكاثوليكيّة في هذه المدينة ليعطيه اندفاعًا جديدًا للطباعة والنشر، وسرعان ما أعطيت بيروت سمة المركز المهمّ في هذا الحقل. إذ ما لبثت حركة الطباعة أن ازدهرت مع تأسيس “لكليّة البروتستانتيّة السوريّة”(الجامعة الامريكية) في بيروت، وبعدها بوقت قصير تأسّست “جامعة القديس يوسف” (1875)، الأولى بروتستانيّة والثانية كاثوليكيّة، ومعهما ازدادت طباعة كتب اللغة والدواوين والمختارات القديمة.
وفي عودة إلى انتشار المطابع، بعد البداية مع مطبعة دير مار انطونيوس قزحيا، ومطبعة الزاخر في الشوير، فقد ظهر العديد من المطابع في غير منطقة من لبنان .
سنة 1930 أنجزت “المطبعة الأمريكية” طباعة معجم ” البستان” لعبدالله البستاني الذي يقع في جزءين 2848 صفحة ، ثم مختصر” فاكهة البستان ” المؤلف من 1684 صفحة . ثم برزت مطابع” الكلية الاسلامية “، ومطبعة مجلة”الدبور”, التي كانت أول مجلة لبنانية كاريكاتورية ساخرة، وجريدة ” المعرض “الاسبوعية , أولاً, ثم اليومية في ما بعد, ومطابع جرائد “التلغراف” و”الطيار. و”الاحرار”. و”النداء القومي”, أما “النهار” فطبعت سنة 1939 في تطبع مطبعة ” عمر منيمنة ” التي نقلها من دمشق الي بيروت في “شارع المارسلياز “في سوق أيأس حتي عام 1945 .
وعندما إستقدمت “النهار” مطابع حديثة، ومن المطابع البارزة في تلك الفترة,” مطابع بيروت, “مطبعة المقاصد“, “مطبعة اليوم” ، “مطبعة العمل”، التي كانت تطبع جريدة العمل، لسان”حزب الكتائب اللبنانية”، ومعها “العمل الطلابي”و وجريدة L’Action بالسان الفرنسي، لم تستمر طولاً، ومطبعة “دار الصياد” التي تطبع مجلات وجرائد الدار، وتقوم بالطبع التجاري, في آن معاً.
الحرب العالمية الثانية اعطت دفعاً للمطابع اللبنانية نتيجة توقف استيراد الكتب من الخارج، فطبع في لبنان في هذه الفترة حوالي مليون نسخة من الكتب متنوعة الاختصاصات وزعت في لبنان والبلاد العربية .
استمر العديد من المطابع القديمة بعد أن تم تحديثها وتطويرها منها مطابع” الحياة” و”السياسة” و”الديار”، و”الأسبوع العربي”وMagazine وشقيقتها، و”بيروت المساء”، “كل شيء ” و”الموعد”، شقيقتها.
في العقد الخامس من القرن الماضي طور سعيد فريحة مؤسسته الصحافية” دار الصياد” فحرص منذ عام 1954 الي استحضار أحدث التقنيات الطباعية من أوروبا لطباعة “جريدة الانوار” ومجلتي” الصياد” و”الشبكة “، ثم “الدفاع العربي”، و”فيروز”، و”الفارس” فيما بعد…فكان لها دور بارز في الميدانيين الصحافي والطباعي .
وعكف سليم اللوزي, عندما انتقل بمجلته “الحوادث”، التي تربعت على عرش الصحافة العربية الأسبوعية، حتى استشهاده سنة 1980، الى مبناها الجديد العملاق في “عين الرمانة” وعلى تجهيز مطابع على درجة كبيرة من التقنية الرفيعة، كانت تطبع “الحوادث” و”الموتور”، وقد فتحت أيضاً أبوابها لطباعة كتب ومجلات أخرى، بينها “جريدة المحرر التي كان يرأس تحريرها هشام أبو ظهر.
كما قامت جريدة “النهار” بإدخال تقنية التصوير الطباعي، فكانت ثورة في السبعينيات بتحويل التنضيد التقليدي بالرصاص الي لوحات طباعية حساسة، ثم حذت حذوها “مطبعة الديك ” شركة الطبع والنشر اللبنانية ” كما حدثت “جريدة اللواء“، مطابعها في “رأس النبع”، ( انتقلت الي شارع الاستقلال بعد سنة 1975). ولم تصدر “جريدة السفير” إلا من مطابعها الحديثة .
من أقدم المطابع وأبرزها في تاريخ لبنان “دار صادر” التي تأسست عام 1863 ولما تول علآ تألقها الى يومنا هذا، وهي التي تتولى “الجريدة اللبنانية الرسمية” المتخصصة بنشر القرارات والمراسم الصادرة عن الجهات الرسمية اللبنانية مثل، مجلس النواب، ومجلس الوزراء … بالاضافة الي إصدار المطبوعات والمنشورات القانونية والحقوقيين، وفي عام 1988 فازت مطبعة دار صادر بجائزة: London International Advertising Award عن لطبعة الفاخرة لكتاب “النبي” لجبران خليل جبران، والتي تبرز الي حد بعيد رقي الطباعة اللبنانية وجودتها المميزة ليس علي مستوي المشرق فحسب أنما علي مستوي العالم .
ومن المطابع المتميزة ايضاً مطبعة عيتاني” من المطابع الاولي التي استخدمت تقنية ” الاوفست “، و”مطبعة شمالي، و”مطبعة نحال، و”مطبعة يوسف بيضون .. ومن المطابع التجارية “مطبعة انيس أشقر “,الذي تدرج من التنضيد اليدوي الي التنضيد بالرصاص الي أن اسس “مطبعة اوفست” في الاشرافية يديرها اليوم أبناؤه رشاد وجهاد، و”مطبعة الفنان الخطاط نزيه كركي “في “المصيطبة “، و”مطبعة جوزيف رعيدي”… وغيرها الكثير ارتبطت الطباعة بفن التجليد الذي عرفته بيروت منذ العهد العثماني في مطابعها الشهيرة، ولا يزال فن التجليد بلبنان حتي اليوم من أهم المهن في المنطقة العربية ومن أفضلها مستوي ونوعية، ومن معامل التجليد المميزة في بيروت معمل تجليد عبد الحفيظ البساط، ومعمل بعينو حمصي .
تتميز الطباعة اللبنانية منذ نشأتها أكثر من 500 عام حتي وصل عدد مطابعها الي نحو 900 مطبعة بأنها متدرجة في المجتمع ، وليس في السلطة، وأنها ابنة القطاع الخاص والمبادرات الفردية، وليس القطاع الرسمي وادارة الدولة، ولعل من قوة الطباعة في لبنان يكمن في قدرتها علي التكيف وتخطي المراحل الصعبة والمحن ومواكبة الازمنة الجديدة .
كان قطاع الطباعة في لبنان ومازال يصدر نحو 75% من إنتاجه الذي يتراوح بين بين 175 و 200 ألف طن سنوياً الي العالم العربي وأوروبا وإفريقيا، مع الاشارة الي أن الطباعة كانت تشكل في الماضي نحو 25 % من مجمل مداخيل الصادرات .
ولا ينسى تأريخ فن الطباعة في لبنان, دور أقدم جالية أجنبية وطئت أرضه، وأسهمت في تطوير الطباعة، طائفة الارمن وهم لايعتبرون أنفسهم جالية ولا أقلية بل لبنانيون من أصل أرميني، فهم لهم سماتهم ولغتهم الأرمينية للحفاظ علي هويتهم وعاداتهم وتقاليدهم الخاصة، سأحكي عنهم فلي معهم حكايات، وكذا مع المبدعين في عالم الطباعة من اللبنانين.