منذ بداية الأزمة الصحية مع انتشار فايروس كورونا المستجد وما فرضه من إغلاق وقائي، والعاملون في القطاعات الثقافية يعانون من تهديد حقيقي، فتأجيل التظاهرات الفنية والثقافية والمعارض، أوقف أعمال هؤلاء، ومن بينهم الناشرون، إذ يشهد قطاع صناعة الكتاب شبه شلل وهو ما يدعو إلى حلول عاجلة لإنقاذه.
يعاني الناشرون وقطاع الطباعة والورق بمصر من خسائر فادحة، جرّاء جائحة كورونا وقرارات الإغلاق وإلغاء المعارض العربية، وجاء القرار الأخير بتأجيل معرض القاهرة الدولي للكتاب من يناير المقبل إلى 30 يونيو المقبل ليشكل محنة إضافية قاسية، ما جعل الناشرين ينخرطون في موجات احتجاجية.
جاء قرار اللجنة الإدارية العليا لمعرض القاهرة الدولي للكتاب برئاسة وزيرة الثقافة إيناس عبدالدايم مخيبًا لآمال العاملين في صناعة الكتاب، حيث كانوا يحلمون بإقامة الدورة الثانية والخمسين للمعرض في موعدها، مع اتخاذ إجراءات احترازية مشددة لحماية المترددين على المعرض ضد فايروس كورونا، على غرار ما حدث مؤخرًا في معرض الشارقة للكتاب، والذي حظي بدعم كبير، وجرى فيه إعفاء دور النشر المشاركة من تكلفة رسوم الاشتراك دعمًا لصناعة الكتاب.
وجاءت الرياح في مصر بما لا تشتهي السفن، حيث أرجأت اللجنة المعرض القاهري الأعرق ليقام في الفترة بين 30 يونيو و15 يوليو 2021، بزيادة أربعة أيام عن المعتاد، الأمر الذي لقي اعتراضًا كبيرًا من الناشرين وقطاع الطباعة والورق، وأطلقوا سيلًا من الاحتجاجات والالتماسات لمراعاة أحوالهم، لكن دون طائل.
ويقدر حجم الخسارة نتيجة إلغاء المعارض فقط منذ بدء جائحة كورونا بما لا يقل عن 100 مليون دولار، وفق بيان محمد رشاد رئيس اتحاد الناشرين العرب، وانخفضت مبيعات الكتب بنسبة 75 في المئة بأدنى تقدير، كما بلغت أزمة قطاع الورق والطباعة مداها من التباطؤ والكساد مع فترات التوقف السابقة والاتجاه إلى التعليم الإلكتروني، وفق المجلس التصديري للطباعة وتغليف الورق.
يأتي تأجيل المعرض القاهري ليمثل أزمة جديدة على الصعيد التسويقي، لا تقل عن ضربة أخرى موجهة لصناعة الكتاب، هي تزوير الكتب، حيث إن القانون لا يزال يرى أن تزوير الكتاب جنحة وليس جناية.
ويشير الروائي والناشر خليل الجيزاوي، مدير عام دار سندباد للنشر والتوزيع بالقاهرة، في تصريح لـ”العرب”، إلى أن معرض القاهرة الدولي للكتاب ظل على مدار خمسين عامًا يعقد في بداية كل عام، ليكون فرصة لتحقيق بعض الأرباح التي ينتظرها سنويًّا قطاع النشر، في ظل قراصنة النشر الذين يتخفون في الظلام ويتربصون بكل كتاب يحقق نسبة عالية من المبيعات، فسريعًا ما يقوم هؤلاء بطباعة الكتب طباعة غير شرعية، وتوزيعها بعد منتصف ليل القاهرة في شوارع وسط البلد، ومكتبات سور الأزبكية، محققين مبالغ كبيرة في ظل غياب القانون وضعف العقوبة.
ويقترح الجيزاوي، أن ينهض اتحاد الناشرين بالاشتراك مع الهيئة المصرية العامة للكتاب في تنظيم عدة معارض للكتاب في كل محافظة من محافظات الجمهورية ومعارض أخرى في كل جامعات مصر، حتى تسهم هذه المعارض في تنشيط حركة بيع الكتاب وتدعم صناعة الكتاب حتى موعد عقد معرض القاهرة للكتاب.
واضطلعت بالفعل الهيئة العامة للكتاب بتنظيم بعض هذه المعارض الجزئية التنشيطية، مثل معرض الأوبرا للكتاب في القاهرة، لكن الواقع يؤكد أنها لم تدر عائدًا ملموسًا، ولم تعوض غياب المعرض القاهري الدولي.
ويوضح الناشر إسلام عبدالمعطي مدير دار روافد للنشر والتوزيع، لـ”العرب”، أن الأمر يحتاج إلى معالجة حقيقية وجادة إذا كان يعنينا وجود صناعة نشر في مصر، حيث إن معرض القاهرة للكتاب “لا ولن تعوضه هذه السويقات العشوائية التي يسمونها معارض داخلية، فهي بلا دعاية وتقام بارتجالية وتُلغى أحيانًا، ويتكبد الناشرون مبالغ طائلة في الإيجار والتجهيز دون عائد يذكر”.
ويرى عبدالمعطي أن قرار تأجيل المعرض القاهري الأكبر جاء بمثابة القشة التي قصمت ظهور الناشرين، وللأسف لم يفكر متخذو القرار في ذلك، فصناعة النشر تعاني على الدوام لعدم اعتراف الدولة بها على المستوى الاقتصادي كصناعة مهمة وكواحدة من مقومات القوى الناعمة لهذا المجتمع، وإلا اهتمت بصياغة القوانين التي تنظم العمل فيها، وتحميها من السلب والنهب المنظم.
وازدادت الأزمة مع تعويم الجنيه، وتفاقمت مع جائحة كورونا، ولا يزال المسؤولون في واد آخر، لا يعنيهم الأمر، فهم لا يتذكرون صناعة النشر إلا لفرض المزيد من القيود الرقابية التي تزيد من أعبائها، ولم يتحرك أحد لسماع شكاوى الناشرين، وصموا آذانهم عن صراخهم، وأخيرًا جاء قرار تأجيل المعرض دون الاهتمام بتأثيراته.
يزيد تأجيل معرض القاهرة للكتاب من معاناة شبكات توزيع الكتاب المصري، التي تعتمد على المعرض بشدة، كما أنه يجعل خطط الناشرين للعام المقبل أكثر تعقيدًا، فعائدات المبيعات المباشرة المتوقعة التي تتم خلال المعرض عادة، والتي كان القطاع في أشد الحاجة لها، أصبحت غير متوقعة قريبًا، وستمر شهور عديدة قبل أن يشهد قطاع النشر دفعة للمبيعات المحلية مثل التي يحققها معرض القاهرة.
يشير الكاتب محمد البعلي مدير دار صفصافة للنشر، لـ”العرب”، إلى حدوث تأثيرات اقتصادية سلبية واسعة لقرار تأجيل المعرض على قطاع النشر المحلي، من المؤكد أنها ستعمق أزمته، فقطاع النشر في أزمة ممتدة منذ أكثر من عام بسبب انكماش سوق الكتاب العربي بسبب تراجع الأوضاع الاقتصادية، وتباطؤ النمو في العديد من الدول، وشدة المنافسة، وانعدام وجود آليات مستقرة لتوزيع الكتاب العربي خارج المعارض الدولية، التي تقام في الحواضر العربية الكبرى.
كما أن هناك جانبًا آخر لتأجيل الدورة الـ52 للمعرض، فأحد الملامح المميزة لمجال النشر العربي، أنه يرتبط بفترات اعتدال المناخ، ويخاصم الصيف، فموسم النشر والقراءة يمتد تقريبًا من أكتوبر إلى إبريل، وربما مايو، لكن شهور الصيف تكون فترات هدنة للمكتبات وقاعات المعارض، وعقد معرض القاهرة في الصيف “سيكون مغامرة في فترة قلق اقتصادي، ومخاطرة كبيرة بسمعة المعرض القاهري ومكانته المرموقة”.
يؤكد اتحاد الناشرين المصريين بشكل قاطع أن قرار تأجيل معرض القاهرة للكتاب هو قرار للدولة، وليس قرارًا لاتحاد الناشرين، ولا للهيئة المصرية العامة للكتاب (الجهة المنظمة للمعرض).
وفي محاولة لتهدئة الأمور وتقديم تبريرات للناشرين والعاملين في صناعة الكتاب، أصدر سعيد عبده رئيس الاتحاد بيانًا ذكر فيه أن مخاطر اقتراب الموجة الثانية من كورونا تجعل تأجيل المعرض القاهري ضرورة، حيث إنه لو أقيم في موعده الشتوي فلن يشهد إقبالًا جماهيريًّا، مهما روعيت فيه الإجراءات الاحترازية، لأن هذه الفترة يُتَوقع أن تكون ذروة انتشار الوباء.
ووعد رئيس اتحاد الناشرين بمحاولة إنعاش سوق الكتب داخليًّا عبر تنظيم سلسلة أخرى من المعارض المحلية البديلة في محافظات مصر المختلفة، إلى جانب اضطلاع وزارة الثقافة بشراء بعض إصدارات الناشرين المصريين لتعويضهم نسبيًّا عن الخسارة العريضة.