خاضت بعض الصحف المغربية تجربة الاشتراك في النسخة الإلكترونية، بعد توقف الطباعة بسبب الجائحة وانهيار المبيعات وسوق الإعلانات. وتتباين الآراء حول مستقبل هذه التجربة وإمكانية تكريسها كنموذج اقتصادي قابل للاستمرار أسوة بالاتجاه العالمي المتزايد نحو الاستهلاك الرقمي للأخبار.
اضطرت العديد من وسائل الإعلام المغربية للانتقال إلى العالم الرقمي مع توقف الطباعة بسبب تفشي جائحة فايروس كورونا عام 2020. ولقيت هذه التجربة إقبالا ملحوظا نظرا لحاجة المواطنين إلى الحصول على معلومات حول الوباء، والآن بعد استئناف الطباعة تواجه تحدي إرساء عادة جديدة لشراء المحتويات الرقمية.
ودفعت الأزمة عددا من الناشرين إلى التفكير في نموذج اقتصادي آخر، لمسايرة الوضع الراهن في ظل تزايد الاعتماد على الفضاء الرقمي.
وخلال فترة الحجر الصحي لحقت خسائر جسيمة بقطاع الصحافة الورقية وسوق الإعلان، كما تسبب إغلاق المقاهي في توقف سوق مهم من مصادر مبيعات المؤسسات الإعلامية. واكتشف الناشرون أن المقاهي التي كانت مصدر إزعاج لهم بسبب توفيرها قراءة الصحف مجانا لمرتاديها، كانت هي الرافد الأساسي للصحف المغربية.
وقال نورالدين مفتاح ناشر صحيفة “الأيام” الأسبوعية، “في اليومين الأولين من إغلاق المقاهي التي كانت تشكل لنا أزمة، بحكم أن فيها القراءة الجماعية للجرائد، تبيّن أنها تحتضن 85 في المئة من مبيعات الصحف المغربية”.
وأضاف “إذا افترضنا أن كل جريدة توضع في مقهى يقرأها 10 قراء، فهذا معناه أن هناك مليوني قارئ للصحف المغربية، لكننا لا نستخلص ثمن الجريدة إلا من 200 ألف منهم، بينما مليون و800 ألف يطالعونها بالمجان”.
وهذا الوضع يزيد من صعوبة أوضاع المؤسسات الصحافية، التي جعلتها الجائحة “منكوبة ومتضررة أكثر من تضرر بقية الصحافة الورقية في العالم”، بحسب مفتاح.
وتابع “أغلبية قراء الجرائد بالمغرب يقرأونها بالمجان، مع أن المؤسسات الصحافية هي استثمارات خاصة وليست مؤسسات عمومية، وهذا وضع غير موجود في باقي الدول”
ونتيجة هذه الظروف فقد نما توجه عام للاهتمام بشكل أكبر بالمحتوى الرقمي، ولجأت العديد من وسائل الإعلام التقليدية إلى تقديم عروض اشتراك على منصاتها الإلكترونية وبالإضافة إلى نسختها الورقية، قدمت نسخة إلكترونية كتجربة مجانية.
وكانت تجربة ناجحة إلى حد ما، فقد أدت القيود الصارمة المفروضة على التنقل وإغلاق نقاط البيع، إلى تمكين أصحاب المؤسسات الصحافية من استقطاب مشتركين جدد.
وقامت بعض وسائل الإعلام بالفعل بدمج خدماتها الإلكترونية والاشتراك في منصاتها، وذلك عبر تقليل عدد محتوياتها المتاحة مجانا على الإنترنت.
وخاضت بعض الصحف مثل جريدة “أخبار اليوم” (مستقلة)، تجربة الاشتراك في النسخة الإلكترونية للجريدة، وتسير وسائل الإعلام هذه على خطى أخرى كانت قد شرعت في هذه العملية قبل الأزمة الصحية، مثل صحيفة “تيلكيل” الأسبوعية عام 2018، ومن المتوقع أن تتبع بوابات إخبارية أخرى نفس النهج.
لكن العديد من العاملين في القطاع يعتقدون أن التجربة تصطدم بعوائق عديدة.
وبحسب مفتاح، فإن “النموذج الكلاسيكي كان يعتمد على الطبع والبيع، ثم تطور نسبيا، فأسست الصحف مواقع إلكترونية تابعة لها، مع فريق مستقل تحريريا، لكن هذا التنويع اصطدم بانخفاض ثمن الإعلانات بالصحف الإلكترونية وكذلك بتوجه أغلب المعلنين بـ80 في المئة إلى الإعلان عبر منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك”.
ويعتمد النموذج مدفوع الأجر بالدرجة الأولى على وفاء الجماهير، وهو ما يتم فقط عبر تقديم محتويات موثوقة وذات جودة عالية، لذلك فإن وسائل الإعلام الإلكترونية ملزمة بالتحقق من الأخبار التي تبثها على وسائطها الرقمية وتجنب المقالات التي تسعى فقط إلى الحصول على أكبر عدد من الزيارات.
ويقول البعض إن نمط الاشتراك في الصحافة المغربية غير موثوق النجاح، بسبب معوقات ثقافية أكثر منها معيقات اقتصادية.
وقال يونس مسكين مدير نشر صحيفة “أخبار اليوم”، إن “منظومة الصناعة الصحافية، من مؤسسات إعلامية وشركات توزيع وتسويق، لم تطوّر علاقة مباشرة مع القارئ”.
ولا يعلّق مسكين، آمالا كبيرة على ما بعد كورونا لتقوية البيع الإلكتروني للصحف، إذ يؤكد أن “الجائحة لن تساعد كثيرا في تنمية ثقافة الاشتراك، لأن الأوان ربما فات، ولا يمكن الانطلاق من الصفر في ظرف استثنائي مثل هذا”.
وأضاف “حتى تجارب الاشتراك المعمول بها حاليا في بعض المنابر الإعلامية، ظلت هامشية ولم تخصص لها سياسات تسويقية خاصة لتقويتها وتمتينها”.
ويختلف الأمر قليلا بالنسبة إلى مفتاح، إذ يرى أن “الجائحة دفعت الصحف إلى تجريب نسخها الإلكترونية ‘بي.دي.أف’ التي استأنس بها القارئ، ولا بد من البناء على هذه التجربة، والمضي فيها قُدما، إضافة إلى البيع الجرائد في الأكشاك”.
وأضاف مفتاح “رغم ذلك فالأفق صعب جدا، ولن نرجع أبدا إلى نفس المبيعات التي كانت في السابق على الرغم من علَّاتها”.
وترى وكالة المغرب العربي للأنباء، أن التجربة المغربية تأتي امتدادا للإقبال على وسائل الإعلام الإلكترونية في جميع أنحاء العالم. ففي فرنسا، على سبيل المثال، لدى جريدة “لوموند” 95 ألف مشترك، و”ميديابارت” 50 ألفا، و”لو فيغارو” 35 ألفا.
ووفقا لموقع “ميند نيوز”، شهدت وسائل الإعلام الثلاث زيادة في معدلات الاشتراك فيها بنسب بلغت 42 في المئة و29 في المئة و27 في المئة، على التوالي، في غضون ستة أشهر. كما استفادت صحيفة “لو بوان” من زيادة بنسبة 42 في المئة.
وفي الولايات المتحدة، كشف تقرير “ديجيتال نيوز ريبورت 2020″، وهو التقرير السنوي لمعهد رويترز، زيادة بنسبة 73 في المئة في عدد الزيارات على المواقع الإخبارية الإلكترونية وعبر الشبكات الاجتماعية، خاصة بالنسبة إلى وسائل الإعلام الرئيسية.
ولوحظت هذه الزيادة أيضا في بريطانيا، حيث سجل موقع “بي.بي.سي”، على سبيل المثال، 70 مليون زائر خلال بداية الحجر، وهو ما شكل رقما قياسيا.
وتشير هذه الأرقام إلى أن الأزمة الصحية المرتبطة بجائحة كورونا أثبتت أهمية الأخبار بغض النظر عن وسيلة نشرها. ويبقى على وسائل الإعلام أن تعزز حضورها على الإنترنت من خلال تقديم أشكال جديدة مثل البودكاست، والرسائل الإخبارية، ومقاطع الفيديو.