لعلّ قطاع النشر في تركيا هو أحد أكثر القطاعات تأثُّراً بتقلّب أسعار صرف الليرة التركية مقابل العملات الأجنبية، بعد قرار “البنك المركزي” بخفض سعر الفائدة، وخطابات الرئيس رجب طيب أردوغان الداعمة لهذه السياسة. فمع انخفاض قيمة الليرة التركية تدريجياً مقابل الدولار، تزايدت أسعار الورق، وهو المادة الخام للكتب والصحف.
أزمة الورق لم تبدأ في تركيا الآن فقط، بل منذ إغلاق مصنع “سيكا” عام 2005
إلّا أن أزمة الورق لم تبدأ في تركيا الآن فقط، بل منذ إغلاق مصنع “سيكا” عام 2005، وهو أول مصنع يُنتج ورقاً محلياً في الجمهورية التركية منذ عام 1936، وبإغلاقه بعد 69 عاماً بدأت تركيا في استيراد الورق من الخارج، بالإضافة إلى استيراد مواد الطباعة أيضاً. وإلى جانب مشاكل الاستيراد، وخصوصاً بعد جائحة كورونا، وارتفاع الأسعار مع انخفاض قيمة الليرة تدريجياً، زادت أسعار الكتب الورقية في تركيا بشكل ملحوظ.
ووفقاً لبيانات نيسان/ إبريل 2021 الصادرة عن “معهد الإحصاء” التركي، ارتفعت أسعار المنتجات الورقية في تركيا بنسبة 45 في المائة، ضمن أحد المنتجات الثلاثة التي حقّقت أعلى زيادة. كما أثّر الانخفاض السريع لقيمة الليرة التركية مقابل اليورو والدولار بشدّة على تجارة الورق والطباعة خلال العامين السابقين. كما أثّر هذا الارتفاع على الصحف أيضاً، ولهذا السبب، أوقفت بعض الصحف في العام الماضي ملاحق نهاية الأسبوع، بينما خفّضت صحف أُخرى عدد صفحاتها. واليوم، تم إغلاق أكثر من مئة صحيفة ودار نشر محلية في تركيا لعدم تمكنها من تغطية تكاليف الطباعة والورق.
بدأت أزمة الورق في تركيا مع إغلاق أوّل مصانعه عام 2005
وأشارت “جمعية الناشرين التعاونية” التركية، في بيان أصدرته هذا الأسبوع، إلى أنّ قطاع النشر، الذي أصبحت حاجته إلى الورق – وهو المادة الخام الأساسية للكتب والصحف – تعتمد على الاستيراد بشكل شبه كامل، يواجه صعوبات شديدة، وخصوصاً بعد السياسات الاقتصادية المُطبَّقة حديثاً وانخفاض قيمة الليرة التركية يوماً بعد يوم.
وطالبت الجمعية باتخاذ خطوات عقلانية وصحيحة لإزالة هذه الصعوبات في أسرع وقت ممكن. مذكّرةً بأنّ استيراد جميع الأوراق والمواد الخام المستخدمة في عملية الطباعة يجرى بالعملة الأجنبية، كما أنّ دفع حقوق تأليف الكتب العالمية يجرى بالعملة الأجنبية أيضاً، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف النقل والشحن بسبب ارتفاع العملة الأجنبية، وهذا “يجعل قطاع النشر في أزمة حقيقية يصعب الخروج منها، مع انخفاض قيمة الليرة التركية”، مضيفةً أنّ “على السلطة السياسية اتخاذ تدابير عاجلة لضمان استمرار حياتنا الثقافية”.
كما طالبت الجمعيةُ الحكومةَ بالتراجع عن السياسات الاقتصادية الجديدة التي تسبّبت في ارتفاع سعر الصرف، وأن تقوم بعملية استيراد الورق بنفسها أو تقرّر رفع ضريبة القيمة المضافة على استيراد الأوراق، وتطبّق الامتيازات الممنوحة لدول الاتحاد الأوروبي في الواردات الورقية إلى تركيا على بقية الدول.
فالشهر الماضي فقط شهد زيادة سعر الورق من 50 دولاراً إلى 100 دولار كل أسبوع تقريباً
وفي بيان حول أزمة النشر الحالية، ذكر كنعان كوجاتُرك رئيس “جمعية الناشرين الأتراك” أنّ العام الماضي شهد تضاعف سعر الورق، فالشهر الماضي فقط شهد زيادة سعر الورق من 50 دولاراً إلى 100 دولار كل أسبوع تقريباً، وهذا ما يجعل معظم الناشرين يفكّرون في مراجعة خطط الإنتاج الخاصة بهم، وكيفية تحديد سعر الكتاب، والحفاظ على علاقاتهم مع القارئ، وبعض أصحاب دور النشر بدأوا يفكّرون إذا كانوا سيكملون في قطاع النشر أم لا.
وأضاف البيان: “نطالب الحكومة إمّا أن تدعم القطاع الخاص المختص بإنتاج الورق في تركيا أو تدعم استيراد الورق من الخارج من خلال رفع الضرائب عن الواردات وتقديم بعض التسهيلات. إلّا أننا نرى أن مثل هذه الأشياء لن تحدث، ويبدو أن الناشرين سيكونون في الأزمة وحدهم مع قرّائهم”.
كما تتوقع دُور نشر الكبرى في تركيا ارتفاعاً كبيراً في أسعار الكتب خلال الفترة المقبلة، وفي هذا السياق، ذكر خلوق هيبكون، صاحب دار نشر “قرمزي كيدي” في حديثه إلى “العربي الجديد”، أنّ “هناك انخفاضاً واضحاً في كمية الورق القادم إلى تركيا بسبب الوباء، كما أن أزمة انخفاض قيمة الليرة بشكل سريع أمام الدولار ستتسبّب في تضاعُف أسعار الكتب مرتين أو ثلاثاً. ومن المهم أن نشارك هذه الحقائق مع القرّاء. ونظراً لأن القارئ لا يستطيع شراء الكتب، فلن يتمكّن الناشرون وبائعو الكتب من بيع الكتب أيضاً. الكارثة متوقّعة على الجميع. كنا نتمنّى تجاوز هذه الأزمة بطريقة أو بأُخرى، ولكن جميع نفقات قطاع النشر، باستثناء العمالة البشرية، تكون بالعملة الأجنبية؛ الورق، الطباعة، الحبر، البنزين المستخدم في النقل… إلخ”.
وقد حذّر هاكان طنطيران، نائب رئيس “جمعية الناشرين المحترفين”، في بيان عن الجمعية، من حدوث تصحّر ثقافي لا يمكن وقفه في تركيا إذا لم يتم اتخاذ التدابير اللازمة خلال الأشهر الستّة القادمة لإخراج صناعة النشر من الأزمة التي تمر بها، بإلغاء ضريبة القيمة المضافة على الورق. كما أشار طنطيران أيضاً إلى أن بعض دور النشر الكبرى تحاول الخروج من الأزمة باتخاذ بعض الإجراءات مثل رفع أسعار الكتب أو تسريح العمال، حتى لو لم يعبّروا عن ذلك، وأن دور النشر الصغيرة تعارض مثل هذه القرارات.
وفي ظل هذه الأزمة أعلنت بعض دور النشر عن توقّفها عن نشر الكتب لفترة، أبرزها دار “هيريتيك”، التي تنشر كتباً في مجال العلوم الاجتماعية بشكل أساسي؛ حيث نشرت على حساباتها في وسائل التواصل الاجتماعي اعتذاراً لقرّائها عن أنها أوقفت أنشطة الطباعة نظراً لانخفاض قيمة الليرة، والزيادة غير العادية في تكاليف الورق، ونقص ورق الأغلفة. كما أعلن أيضاً عثمان أكينهاي، محرّر دار “أجورا” عن وقف الطباعة هذه الفترة، باستثناء الكتب الأساسية، ويتوقع أن يكون هذا هو وضع أغلب دور النشر التركية الآن.
توقّفَ الكثير من دور النشر بسبب عجزها عن تكاليف الطباعة
من جهته، يعتبر الشاعر عمر شيشمان، صاحب دار نشر “الكيلومتر 160″، بأنَّ “ارتفاع أسعار صرف العملات الأجنبية يؤثّر على الناشرين مثلما يؤثّر على كل شيء آخر، وسوف يستمر هذا الارتفاع. إنّنا نتعامل في الأساس بطريقة الدفعات المرحلية التي يتم جمعها من الموزّعين وبائعي الكتب بآجال استحقاق تصل إلى عام تقريباً، فكيف يمكن للناشرين تلبية تكاليف الطباعة المتزايدة، ومُسبقة الدفع؟ أصبحت إعادة الطباعة صعبة للغاية، فكيف يمكنهم طباعة كتاب جديد؟”.
ويضيف في حديثه إلى “العربي الجديد: “لقد ركزنا على المبيعات المباشرة لفترة من الوقت عبر متجرنا الإلكتروني، وندعو قرّاء دور النشر الأخرى إلى شراء الكتب مباشرة من الناشرين. ينبغي أن يعرف القرّاء أن سعر الكتاب الذي يشترونه من المكتبة لا يصل إلى الناشر أو يذهب قسم كبير منه قبل أن يصل إلى الناشر. وهذا ليس وضعاً جديداً، فلمدّة عشر سنوات، لم نتعامل مع مكتبة أو موزّع كتب واحد بخلاف Pandora الذي يتسم بالدقة في الدفعات المرحلية. إذا أردنا أن ندعم دور النشر التي نحبها لتُواصل دورها في النشر، فعلينا شراء الكتب منها مباشرة. هناك وسيلة مريحة تُسمّى “التسوق عبر الإنترنت”، حتى منذ سنوات…”.